بسم الله الرحمن الرحيم
الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا
28 / 5 / 1444هـ
الحمد لله الذي أبدع كلَّ شيء وصوَّره، وخلق الإنسان في أحسن تقويمٍ وعدَّلَه، شدَّ السماء، وأثار السحاب، وفتح أبواب الغيث، فأخرج النبات والشجر وأسبلَه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ما أجلَّه وأعظمه! وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، ذو الخُلُقِ العظيم، والنهجِ المستقيم ما أفضله وأكرمه! صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع النهج واقتفى الأثر وتواصى بالصبر وتواصى بالمرحمة، أما بعد:
الشجرة...وقصة الابتلاء الأولى.
مخلوق من مخلوقات الله، الدالةِ على تفرده بالألوهية والوحدانية، مخلوق له الأثر العظيم في التوازن الكوني، والانسجام البيئي، فيه بهجةُ الناظرين، وأنسُ المُسامِرين، يغدو إليه الطير فيتخذُ منه سَكَنًا وسِترًا، ويرنوا إليه الإنسان فيأخذ منه إيقادًا وطاقة وإشعاعًا ورِفْدًا، مخلوقٌ ذكره الله في كتابه، وضرب به المثل بآياته، مخلوقٌ جاء ذكرُه في القرآن على سجوده وخضوعه للذي خلقه، مع هذا المخلوق بدأت قصة الابتلاء الأولى مع نبي الله آدم، ذلكم المخلوق هو الشجرة.
إن الشجر نعمة من نعم الله العظيمة، إذْ لولا الشجر لما كان للآدمي رزقٌ إلا ما شاء الله، لأن أصل وجود المخلوقات ما أنبت الله لهم من الأرض، فالحيوانات تَحيا بالخضرة، فينعم الإنسان بأكل الحيوان والخضرة (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) النمل: ٦٠.
من منافع الشجر.
وفي الشجرة تلقى الثمرة (وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) الأنعام: ٩٩.
وفي الشجرة تلقى النحلة (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) النحل: ٦٨.
ومن الشجرة توقد نارًا (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا).
ومن الشجرة تَلقَى صِبغًا، وتُنبِتُ دُهنًا (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِين) المؤمنون: ٢٠.
ومن الشجرة تصنع قلمًا (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ)
وتحت الشجرة تلقى ظلاً، تأكلُ يَقطينًا، ولما أنجى الله يونس من بطن الحوت ضمه الله إلى شجرة اليقطين (وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِين) الصافات: ١٤٦، لسرعة نباته، وتظليل ورقه، ونعومة ملمسه، وجودة غذائه، وأكله نيئًا ومطبوخًا بلُبِّه وقِشره([1]).
سجود الأشجار إلى الله.
كانت الجاهليةُ الجهلاء موغلين بصرف العبادة لأنواع المخلوقات من دون الله، حتى عبدوا الشمس والقمر، والحجر والشجر، فردّ الله عليهم كلَّ ذلك بأن ما تعبدون من دون الله هي عابدةٌ ساجدةٌ خاضعةٌ لله، فقال الله (ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاس).
وكانت رواسبُ الجاهلية لها أثرٌ لحظي، حتى بعد إسلام من أسلم، فإن بعض من أسلم حديثًا في زمن النبي ﷺ لا زالت بعضُ عوالق الجاهلية في نفوسهم من تعظيم الأشجار والتبرك بها، لكن الله أزالها بإقرار التوحيد في النفوس، فعن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حُنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرةٌ يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله ﷺ: " اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: (اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون) الأعراف: ١٣٨، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ"([2]).
والمقصود من ذلك أنَّ من قصد بقعةً يرجو الخيرَ بقصدها من غير دليل؛ سواءٌ كانت البقعةُ شجرةً أو عينَ ماءٍ أو قناةً جاريةً أو جبلًا أو مغارةً، وسواءٌ قصدها ليُصلِّيَ عندها، أو ليدعوَ عندها، أو ليقرأ عندها، فهو منكر عظيم([3]).
علاقة الشجر بالنجم.
والشجر هو كل ما يَنْبُت على وجه الأرض من نباتٍ له ساقٌ صلب، كشجرة السدر، والأَرْز، أما ما لا ساق له صلب فليس بشجر، كالنعناع، والبقدونس.
لكن هل تدري ماذا سمَّى الله النبات الذي لا ساق له؟ سمى الله النبات الذي لا ساق له نجمًا! نعم. سماه نجمًا؛ ولهذا قرن الله بين الشمس والقمر، ثم قرن بعد ذلك بين النجم والشجر، فقال الله تعالى في سورة الرحمن (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ( الرحمن: ٥، فالشمس يقابلها القمر، والنجم يقابله الشجر، قال شيخ المفسرين الطبري:" النجم ما ليس له ساق من النبات، والشجر ما له ساق" ([4]).
علاقة الشجر بالبعث والجزاء.
وإذا رأيت الشجر أيها المؤمن، فتذكر بعثك.
إذا رأيت الشجر أيها المسلم فتذكر حياة الإنسان التي يعقب فناءَها خلقٌ جديدٌ وحساب.
ومن هنا تجد أن القرآن يُدلي على الملاحدة منكري البعث بحياة الأشجار مِن حولِهم، وكيف أن في النظر فيها عبرةً وتذكرةً وادَّكارًا.
جاء أحد المتكبرين الصناددة يخاصم النبي ﷺ في إنكار البعث، وأتاه بعظمٍ قد بَلِيَ ففتَّته بيده، وقال: أترى اللهَ يحيي هذا بعد ما رمَّ و بَلِيَ؟ فقال النبي ﷺ "نعم. ويبعثك ويدخلك النار"([5])، فأنزل الله تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ( يس: ٧٧ – ٨٠.
وتأمل كيف قال الله في الردّ على المعاند المجادل: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا( ، وهذا من أدلة بعث الجسد، فكما أن الله أخرج النار الحارة من الشجرة الرَّطبة المرتوية بالماء، فكذلك يخرج الله الجسد الرَّطب من العظام البالية المتفتّته.
فاللهم ارزقنا تأملاً في كتابك، وتفكرًا في آلائك، وارزقنا نعيمًا لا ينفد، وإيمانًا لا يرتد، وصحبة نبيك الكريم في جنة ﷺ الخلد.
الخطبة الثانية: الحمد لله...
توجيهات حضارية ونُظُم وزارية.
إن الشجر جزء مهم لا يتجزأ من التكوين البيئي، الذي يعكس النقاء، ويطرد تلوث الأجواء، وإن من الجرائم البيئية قطعَ الأشجار، والاعتداءَ على المحميات، في أرضٍ شحَّتْ وظنَّت بالأمطار والسُحُب.
جاء في المادة الثالثة عشرة من نص نظام الثَّرَوَات الحية من موقع هيئة الخبراء ما يلي:
-يحظر الإضرار بالأشجار والشجيرات النامية في أراضي المراعي والغابات، كما يحظر استعمال مواد ضارة - أيا كان نوعها - على هذه النباتات....
ب - لا يجوز قطعُ أيِّ شجرة أو شجيرة أو أعشاب نامية في الغابات العامة أو المراعي الطبيعية أو اقتلاعُها...
جـ - لا يجوز رميُ أو تركُ أو دفنُ المخلفاتِ أو الملوثاتِ أو المشتقاتِ البترولية أو البلاستيكية أو النفايات...بالقرب من الأشجار.
د - لا يجوز إشعالُ النار أو استعمالها في هذه المناطق، عدا الأماكن المسموح فيها بذلك... .
ثم لنعلم -معاشر الكرام- أننا في زمن الشتاء والذي تكثر فيه الرحلاتُ البرية، مما يؤكد على الحصيف العاقل أن يتجنب بطونَ الأودية، والسيولَ الجارفة، وأماكنَ الآبار المهجورة، لما في ذلك من الوقايةِ والعنايةِ، ودفعِ المضرة.
فاللهم احفظنا واحفظ ذرياتنا، وسلمنا من المخاطر، واجعلنا في حفظك ورعايتك....
عاصم بن عبدالله بن محمد آل حمد
([1]) انظر: تفسير ابن كثير (7/40).
([2]) رواه الترمذي وصححه.
([3]) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (٢/ ١٥٧ ـ ١٥٨).
([4]) تفسير الطبري (7/442).
([5]) أخرجه الطبري (23/30)، والواحدي في أسباب النزول (ص:423).