بسم الله الرحمن الرحيم
أحاديث القرآن عن القرى
28 / 7 / 1445 ç
الحمد الله أما بعد:
خلق الله الخلق، وجعل لهم عادات وتقاليد، ومن أبرز ذلك أنهم لا يسكنون فرادى، أي: لا يعتزل كلُّ إنسان في مكان بعيدٍ عن الآخر، بل إذا سكنوا فإنهم يتجمعون، ويتضامُّون، ويتقاطرون على قطر واحد، فيُسْلي بعضُهم بعضًا، ويساعد الآحادُ الأفراد، وهذا المكان الذي يتجمعون فيه يسمى (القرية)، وجمعها القرى، واستعمل القرآن القرية والمدينة على معنى واحد، ولم يبعث الله -في هذه الأمة- نبيًا إلى كل قرية، بل بعث لكل القرى نبيًا واحدًا هو نبينا محمد ث وفي هذا يقول تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا) الفرقان: ٥١، ولكنا لم نفعل، بل أرسلناك وحدك، " وحمّلناك ثِقَل النذارةِ جميعِها، لتستوجب بصبرك أعددنا لك من الكرامة والدرجة الرفيعة"([1]).
وحديث اليوم عن القرى وذكرها في بعض مواطن القرآن.
قرية السلام وقرى الخوف.
كل قرية تعيش في سلام إذا هي أخذت الإسلام وصدقت بأنبياء الله الكرام، فأنبياء الله سِلْمٌ على أهل القرى المؤمنة، وليسوا بمفسدين لها، ومن ذكاء بلقيس أنْ قالت تختبر نبوة سليمان: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ( النمل، "فإن قبل الهدية فهو مَلِك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه"([2])، فالقرية التي تعيش في رعاية الإسلام تُغدق عليها البركات، وتُدرُّ عليها الخيرات: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) الأعراف: ٩٦، وانتكاسة القرية عن فطرتها، وإيمانها، زوالٌ لنعيمها، وتردٍ في حالتها: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) النحل: ١١٢، وهذه القرية التي ضُربت مثلاً هي مكة أيامَ قريش وكفرِها، ومع جوار بيت الله وعمارتِهم المسجد الحرام إلا أنهم بكفرهم أصابهم القحط فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرغد، فكيف بغيرها من القرى.
ومن خوف أهل القرى المسرفة أن جعل الله الجُبْن في قلوبهم، والرعب في أفئدتهم، فحصنوا قراهم، وسكن الرعب معهم في سككهم وبيوتهم، كما ضرب الله الذلة والمسكنة على قرى اليهود فقال الله: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ) الحشر: ١٤.
أم القرى.
إن القرية التي يؤمها الخلق شرقًا وغربًا منذ أن خلق الله آدم، هي قرية القرى، وأم المسافرين، هي أم القرى، التي قال الله عنها في كتابه: (وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا) الأنعام: ٩٢ ، إنها مكة.
وسميت أمَّ القرى؛ لأن الأرض دُحِيت منها، ومعنى ذلك: أن أول بقعة وضعت في الأرض هي البقعة التي هي موضعُ البيت، ثم مدت من تحت هذه البقة جميعُ الأرض([3]).
وسميت أم القرى: لأنها مركز القارات السبع، وأن اليابسة موزعةٌ حول مكة توزيعًا منتظمًا على سطح الأرض، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) البقرة: ١٤٣:"وكما أن الكعبة وَسَط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا"([4]).
"وسميت مكة أم القرى؛ لأنها أقدمُ القرى وأشهرُها وما تَقَرَّت(واجتمعت) القرى في بلاد العرب إلا بعدها"([5]).
وهي الأرض التي أمَّها الأنبياء، وقصدها الرسل، قال ث:"صلى في مسجد الخَيْف سبعون نبيًا"([6]).
قرية تأكل القرى.
ومن أقوى القرى في التاريخ الإسلامي، دينيًا، وعسكريًا، وأمنًا غذائيًا واجتماعيًا هي القرية التي تأكل القرى، وهذا هو وصف النبي ث لها، فقد قال ث: " أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد"([7])، فالقرية التي تأكل القرى هي مدينة رسول الله ث، ومعنى أكلِها للقرى: أنها تغلب القرى وتنتصر عليها، فكل جيوش الإسلام وقته ث انطلقت منها حتى غلبت كلَّ بلاد الجزيرة العربية، ولا زالت هي عاصمة الخلافة وقت أبي بكر وعمر وعثمان، والتي امتد أكلُها للقرى حتى وصلت بلاد فارس والروم.
وقد كره النبي ث أن تُسمى يثرب، لما في هذا الاسم من معنى التثريب وهو المؤاخذة والعقاب، وإنما سماها يثرب المنافقون كما قال الله تعالى عن طائفة من المنافقين: (وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) الأحزاب: ١٣.
لكن اسمها المدينة بـ (أل) التعريف: أي المدينة الكاملة على الإطلاق، والتي تستحق الإقامة بها، قال ث:"المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"([8]).
قرية النمل.
إن أفضل القرى هي القرى المسبحة لله، والطائعة في سبيل رضاه، فحق هذه القرى على البشرية أن تعيش في سلام، وألا تذوق الضيم والألم، قال ث: "قرصت نملةٌ نبيًا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل، فأحرقت، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح"([9])، والنمل له قرى أمثال قرى البشر، بل على وفقِ مقاييسَ معماريةٍ في منتهى الدقة والإتقان، قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) الأنعام: ٣٨، وإذْ وصفت تجمعات النمل بالقرية، فإنها القرية التي يكون فيها الطعام والمؤن والسكن، كما أن قرى النمل قرى صالحةٌ مسبحةٌ، كما أخبر الله عن مخلوقاته: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) الإسراء: ٤٤، بل قراهم جاءت على منتهى التناصح والتعاون والحراسة والأمن، قال تعالى:( حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية: الحمد لله...
المكر في القرى.
إن القرى هي محل اجتماع الناس، ومحل اختلاف ألوانهم ودواخلهم، فترى فيهم الصالح والطالح، الشريف والوضيع، العالم والجاهل، لكنَّ المقطوعَ به أن كلَّ قرية لا تخلو من مجرمين فيها، يبغون فيه الفساد، قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) الأنعام: ١٢٣، فكم مكر المجرمون في الاستيلاء على ممتلكات الناس ومقدراتهم، وكم مكروا في إفساد المال العام، وكم مكروا في إحلال الظلم مكان العدل، والفسادِ مكان النزاهة، وكل مكرِ ذلك عائدٌ عليهم (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) فاطر: ٤٣، فجانب المجرمين، وكن مع عبادِ الله المصلحين.
قرية البخلاء.
وإن من أَلْأَمِ صفات القرية أن يجتمع أهلها على البخل، وترك المعونة، والانكفاف على بعضهم، قال قتادة: "شر القرى التي لا تضيف الضيف"([10]). وقد وصف الله قريةً جاوزها موسى مع الخضر، عندما طلبوا منهم الطعام فبخِلوا وظنوا وشحوا، فقال الله في تخليد ذكرى هذه القرية المشينة: (فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا) الكهف: ٧٧، وقد وصف النبي ث أهل هذه القرية بأنهم كانوا لئامًا، أي: بخلاء([11])، وقال أهل التفسير أن موسى والخضر طافوا على مجالس هذه القرية، وكلُّهم اتفقوا على البخل واللؤم، ورد موسى والخضر، فهي أبخل قرية وأبعدها عن السماء([12]).
هذا بعض حديث القرآن عن القرى، فكم قرية في زماننا استحق أهلها الثناء، وكم قرية عراها الألم والظمأ، وكم قرية غابت في غياهب الفسق والهوى، فقرُبَت من الهلاك والشقاء، ولنعلم أن القرية هي كل واحد منا، فصلاح الفرد صلاح لكل القرية، وفساد الفرد بداية انتشار العفن والخراب، وقلةِ شكر العزيز الوهاب، فإذا حل العقاب هُجرت المساكن والأبواب (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) القصص: ٥٨.
فاللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر واحم حوزة الدين، اللهم وفق ولي أمرنا لكل ما تحبه وترضاه، اللهم واجعله ذخراً للإسلام والمسلمين، اللهم احم بلادنا، وانصر جندنا، وأذل أعداءنا، اللهم نج المستضعفين في غزة، اللهم اشدد وطأتك على يهود المعتدين، اللهم املاء بيوتهم وقبورهم نارًا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عاصم بن عبدالله بن محمد آل حمد
([1]) (6/90) بتصرف يسير.
([2]) تفسير ابن كثير عن غير واحد من السلف (6/190).
([3]) جاء في ذلك أخبار عن السلف، كقول عبد الله بن عمرو: "وكانت الأرض تحته كأنها حشفة، فدحيت الأرض من تحته"، رواه الطبري (6/20) بسند رواته ثقات.
([4]) تفسير القرطبي (2/153).
([5]) تفسير الطاهر ابن عاشور (7/372).
([6]) رواه الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (1127).
([7]) رواه البخاري.
([8]) رواه مسلم.
([9]) رواه البخاري.
([10]) تفسير البغوي (3/209).
([11]) رواه أحمد في مسنده (5/119).
([12]) انظر: تفسير ابن عطية (3/533).