الإنسان في سورة الإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم
الإنسان في سورة الإنسان
10 / 17 / 1444هـ
الحمد لله الذي أوجد الإنسان من العدم، وخلق البشر من القِدمَ، خلق فسوَّى، وقَّدر فهدى، أشهد أن لا إله إلا الله، أنزل آياتِه ليتدبرها أولُو البصائر والنُّهى، وأشهد أن محمدًا عبدُه المصطفى، والخاتَمُ المُجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، وسلم تسليمًا كثيرا إلى يوم المعاد المُرتجى، أما بعد:
قصة الإنسان.
سورةٌ من القرآن بيَّنت قصةَ الإنسان، من مُبدئه إلى خبرِه ومنتهاه، والغايةَ من خلقه ووجوده، ذكرت أطوارَ الإنسان ومراحلَه، وتشكُّلَه.
سورةٌ من القرآن اشتملت على حقيقة الإنسان، وبيان أصله وكُنْهِه، وردَّت على الملاحدة الزنادقة، وعرَّت أباطيلهم وآراءَهم في قضية وجود الإنسان.
سورةٌ من القرآن رسمت للإنسان طريق الخير وجلّت عن سمات الإصلاح، وحذرت من طرائق الشر، وأبانت عن العواقب والمآلات، فيها وعدٌ ووعيد، وترغيبٌ وترهيب.
سورةٌ ذكرت أوصاف الجنة بما يُشوِّق النفوس، ويُحفِّز الروح، قُرِئَت على أحد أصحاب النبي ﷺ فلما جاء ذكرُ الجنة زفرت نفسُه، وفاضت روحُه شوقًا إلى الجنة( )، أتدري أي سورة هذه؟ إنها سورة الإنسان.
الإنسان حكايةٌ لأعظم ابتلاء.
نعم سورة الإنسان. ومن هو الإنسان؟ إنه الإنسان الذي هو مدار الكون، ومآل ما بَعْد الحياة، فالإنسان هو القضية الكبرى، وهو الابتلاء العظيم، فكونك إنسانٌ إيها الإنسان هو تشريفٌ من الله وتكليف، ولا شك أن التكليف ابتلاء من العظيم سبحانه؛ ولذا قال الله في أول السورة مبينًا هذا الابتلاء: ﭽ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﭼ، وبين الله عاقبة هذا الابتلاء فقال بعدها: ﭽ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭼ الإنسان: ٣، فهو إن نجا من قنطرة الحياة فهو في سعادة أبدية، وإن تعثر وتبعثر، وتجبَّر واستكبر فهو في تعاسة سَرمدية، وبيَّن الله مآل هذا الابتلاء العظيم فقال بعد ذلك: ﭽ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭼ
سورة الدهر.
تُعرَف هذه السورة أيضًا بسورة الدَّهر، لأنها أخبرت عن حالة غَيبيَّةٍ عجيبةٍ غريبة، لم يدْركها أحدٌ من البشر، إنها حالةٌ دهريةٌ طويلةٌ ممتدة، لم يُعرَف فيها الإنسان، إنها حالة العدم، حالة اللاوجود، قال الله تعالى عن هذه الحالة: ﭽ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﭼ دهورٌ مرَّت، وفتراتٌ تصرَّمت، والإنسان لم يكن شيئًا يُذكر في الخليقة؛ "لأنّه آخرُ ما خلقه الله من أصناف الخليقة"( )، كان الإنسان معدومًا، وكان قبله من المخلوقات ما لا يعلمه إلا الله، فهو طارئٌ على هذا الكون، دخيلٌ عليه، من آخر مخلوقاته.
ومع ذلك تجبَّر هذا الإنسان وتكبَّر، ورأى نفسًا حاكمًا على الأرض وتبختر، وما ذلك إلا لجهله وضعفه؛ ولذا بين الله هذا الضعف فقال في السورة نفسِها ﭽ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﭼ نطفةٍ، ثم أمشاجٍ.
سورة الأمشاج، والرد على الملاحدة والملحدين.
وتأمل كلمة أمشاج التي لم تَرِد في القرآن إلا في هذا الموضع من هذه السورة، ﭽ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﭼ والأمشاج الأخلاط: فهو من ماء مهين، مختلطٍ من الجنسين الذكرِ والأنثى، والدَّمِ والعلقة، فنسيَ الإنسان أصلَ خلقِه، وأنه من هذه الأخلاط، فكفر! وأنكر وجود خالقه! وقال: لا بعث ولا حساب، كما هم الملاحدة والملحدون في هذا الزمن، الذين نسو أنهم كانوا عَدَمًا، فأخرجهم الله إلى الوجود، فلما رأوا النور، اختاروا النكران والجحود، أولم يتدبروا أن الذي نقلهم من اللاوجود إلى الوجود قادرٌ على بعثهم وحسابهم، "فمن مقاصد هذه الآية ﭽ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﭼ بيانُ مظهر من مظاهر قدرته- عز وجل- حيث أوجد الإنسان من العدم، ومن كان قادرًا على ذلك، كان- من باب أولى- قادرًا على إعادته إلى الحياة بعد موته، للحساب والجزاء"( )، ومن هنا وصف الله هذه الفئة من الناس التي ظنت أنها خُلِقت للحياة، لا للآخرة، للفانية لا للباقية، فقال عنهم في هذه السورة: ﭽ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭼ
اللهم اجعلنا من أهل الاعتبار والأبصار، وأنزل علينا موجبات رضاك عنا، واجعلنا من أهل التذكرة والادكار.
الخطبة الثانية: الحمد لله...
أيام الإنسان في هذه السورة.
وفي هذه السورة أخبر الله عن أيام الإنسان، وجعلها أربعةَ أيام، نعم. للإنسان مِن مُبتدئه إلى سرمديَّتِه أربعةُ أيام:
1- يوم العدم ﭽ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﭼ، وها هنا سؤال: ما رأيك أيها الإنسان، هل تمنيت يومًا من الدهر أنك كنت في حالة العدم؟ وأنك لم تخلق نهائيًا؟ فإن كان هذا الخاطر قد جاءك يومًا من الدهر فما حامِلُه؟ وما دوافِعُه؟ وإذا أردت جوابًا شافيًا تأتسي به فاسمع جواب الصِّديقين: فمن تأملات أبي بكر-رضي الله عنه- في أيام العدم أنه لما تلا هذه الآية ﭽ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﭼ قال: "ليتها تَمَّتْ، فلا نُبتلَى"، أي: تمنى أنه لم يُنقل من العدم إلى الوجود، وتمنى أن آدم لم يتكاثر ويخرج نسلُه، لِمَ؟ هل لكونه خسر تجارة؟ أو فقد محبوبًا؟ لا. وإنما أمنيته كانت؛ لأنَّ الدارَ دارُ ابتلاء، والأرضَ أرضُ مِحن؛ ولذا كان عمر أيضًا يقول: "ليتني لم أكُ شيئًا، يا ليتني كنت نسيًا مَنسيًا"، وكان إذا سمع هذه الجملة من الآية ﭽ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﭼ يقول: "يا ليتها تَمَّت"( )، أي: ليتني لم أُخلق.
2- يوم الوجود، وكيف أنشأ الله الإنسان على هذه البسيطة، فقال سبحانه: ﭽ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭼ، ولما كانت حياة الإنسان كلمح البرق، لم يُطِلِ الله في تفاصيل هذه الأيام، لبيان قلتها وهوانها على الله، بل انتقل بعدها إلى بيان اليوم الثالث الذي فصَّل فيه كثيرًا.
3- يوم القيامة، وقد وصفه الله في هذه السورة بأوصاف مُرِيعَة، وأبان عن وجهٍ لهذا اليوم عابسٍ شديد، فقال تعالى:
ﭽ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭼ، استطار واللهِ شرُّ ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض. ﭽ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭼ أي: منتشرًا عامًا على الناس إلا من رحم الله، فاشيًا شرُه في السماوات فانشقت، وفي الكواكب فانتثرت، وفي الأرض فنُسِفَت، وفي الملائكة فَفَزِعت، وفي المياه فغارت( ).
وقال الله في وصفٍ آخرَ لهذا اليوم في نفس السورة ﭽ ﭸ ﭹ ﭺ ﭼ ، يومًا تعبس فيه الوجوه، وتُقَمْطَر فيه الأيام: أي تطول وتشتدُّ، حتى يكونَ مقدارُ ذلك اليوم خمسين ألف سنة!
وقال الله تعالى في وصفٍ آخرَ لهذا اليوم في نفس السورة ﭽ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭼ واليوم الثقيل يوم القيامة. وإنما سمُّيَ ثقيلاً لشدائده وأهوالِه، وللقضاء والحساب فيه بين العباد( ).
فجمع هذا اليوم أربعةَ أوصاف: يومًا مستطيرًا، ويومًا عبوسًا، ويومًا قمطريرًا، ويومًا ثقيلاً، إلا من رحمه الله فخففه عليه، جعلنا الله من رحمائه وأصفيائه. فالبشرى للمؤمنين أنْ قال الله في نفس السورة ﭽ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﭼ ، فالكافر يُلَقِّيه الله اليوم العبوس، والمؤمن يُلَقِّيه الله نضرةَ الحبور والسرور.
4- اليوم السرمدي الأبدي، وهو اليوم الذي لا ينتهي، وليس له عّدٌّ ولا حساب، وإنما خلود فلا موت، فقال الله تعالى: ﭽ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭼ، فهما طريقان لا ثالث لهما: طريقُ كُفَّار، وطريقُ أبرار، ففصل فيه وأطال، وبالغ في بيانه مُرغبًا، ومُحفزًا النفوس إلى الابتدار والمسارعة للدار الآخرة.
صفات الإنسان في سورة الإنسان.
فبيَّنت هذ السورة صفاتِ الناجين، وأعمالِ المقربين، صفاتِ الإنسان التي تنجيه من الأهوال، فمن هذه الصفات العظيمة الكريمة: أنهم ﭽ ﭙ ﭚ ﭼ ﭽ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭼ ، ويطعمون لوجه الله لا يريدون جزاءً ولا شكورًا، ويصبرون لحكم الله في شرعه وقضائه، ولا يطيعون آثمًا أو كفورًا، ويذكرون الله بكرة وأصيلاً، ومن الليل فيسجدون له ويسبحون ليلاً طويلاً.
أما الإنسان الكافر فوصفه الله بوصف يقضي على آخرته، ويكشف عن مدى تصوره وعقله، فقال عنه: ﭽ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭼ .
ثم ختم السورة ببيان فضلها، وعلو كَعْبِها، وأنها من السور التي يقف على أعتابها المؤمن مُتأملاً مُتدبرًا، فقال: ﭽ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭼ وكان ﷺ يُكثر من قراءتها في الركعة الثانية من صلاة الفجر من يوم الجمعة.
عاصم بن عبدالله بن محمد آل حمد