مكتبـــــة الخطب

2025-12-21 09:46:38

التعنت آفة عقلية

بسم الله الرحمن الرحيم التعنت...آفةٌ عقلية 3 / 12 / 1446 الحمد لله... أما بعد: أبناء العمومة يقتلون عمَّهم! عُدَّت هذه القصة في عداد القصص الغرائب، والحكايات العجائب، والتي تدل على وَهن العقول، وقساوة القلوب. كان رجل غنيًا كثيرَ المال، ولم يكن له ولد، وكان له أبناءُ عمٍّ، فيهم شجع وطمع، وهم ورثة هذا الرجل الغني، وفي يوم تسلط فيه الشيطان، واكتمل فيه الغَي، وغاب عنه التعقل، قاموا على عمِّهم الغني الذي ليس له ولد فقتلوه؛ ليرثوا ماله، وألقوا جثته في قارعة الطريق، فاختصموا في قتله أمام الناس: مَن قتله؟ مَن أَرْدَى عمَّنا؟ يُظهرون براءتهم بهذا الصنيع، فقال رجل: أتختصمون فيمن قتله وفيكم نبي؟ فمن هو نبيهم؟ كان نبيهم موسى-عليه السلام-، وكان أبناء العمومة هم من بني إسرائيل، والذين قال الله عنهم في هذه القصة العجيبة: ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﭼ. حكم النبي في قضية القتل! فأمرهم موسى أن يذبحوا بقرة! فتعجب القوم، وقالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول: اذبحوا بقرة! أتهزأ بنا؟ فقال: أعوذ بالله، أقول لكم: "ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ"، وتقولون: " ﮬ ﮭﮮ "؛ لأنه لا يليق الهزُؤ أن يفعله العقلاء الأفاضل؛ لأن الهُزُؤ مِزاح مع احتقار واستخفاف بالممزوح؛ لذا قال لهم موسى: ﭽ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﭼ. تعنت ومماطلة تسبب جَهدًا وبلاء! فذهبوا إلى السوق فوقعوا في حيرة، أي البقر أراد الله؟ فرجعوا إلى موسى: ﭽﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﭼ ، قالوا هذا مع أن الله قال: (ﮩ)، ولم يحددها بعمر، أو لون، أو وصف، قال ابن عباس: "فلو أخذوا أيَّ بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم"، وسبب ذلك أنهم أساؤوا الظن بنبيهم، فقالوا: (ﮬ ﮭﮮ)، فكان عاقبةُ سوءِ ظنِّهم ما قذف الله في قلوبهم من التعنت والتشدد، وقد أمر الله أمة محمد  بترك التنطع في المسائل فقال: ﭽ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﭼ، والمنهي عنه أسئلةُ التكلف والسؤالُ عما لا يَعني، والأسئلةُ في العويص من المسائل التي لا تنفع الحال، وإنما تفتح باب النزاع، وتُثير مكنونَ الشقاق، ولا يكون فيه إلا التحريج على الأمة، قال النبي : "إن الله فرضَ عليكم الحجُّ فحُجُّوا"، فقال رجل: أكُلَّ عام يا رسول الله؟ فسكتَ حتى قالها ثلاثًا. فقال: "لو قلتُ: نعَم. لوَجَبَتْ ولما استطعتُم"، ثم قال: "ذَروني ما تركتُكم، فإنما هلك من كان قبلَكم بكثرةِ سؤالِهم واختلافِهم على أنبيائِهم، فإذا أمرْتُكم بشيءٍ فأْتُوا منه ما استطعتُم، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ فدَعُوه"( ). وإذا أراد المسلم أن يسأل فإنما يسأل فيما لا يترتب عليه شيء مما سبق، وإنما يسأل سؤال الراغب المتواضع، سؤال الصادق المتعلم، كما قال تعالى آمرًا: ﭽ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭼ النحل: ٤٣. سؤالات المتنطعين! فكانت أولُ سؤالاتِ المتنطعين: ﭽ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﭼ ، ﭽ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰﭼ، (ﯦ ﯧ)أي: ليست طاعنة في السن، (ﯨ ﯩ) أي: ليست صغيرة. وإنما (ﯪ ﯫ ﯬ)، وهذه السِّنُّ أقوى ما تكون البقر والدواب، وأحسنُ ما تكون لحمًا وعظمًا، فكان ذلك أولَّ التشديد عليهم؛ ولذا قال لهم موسى: ﭽ ﯮ ﯯ ﯰ ﭼ، أي: بادروا بتدارك حاجتكم، وكفوا عن المماطلة والملاججة، حتى تصلوا إلى العلم بقاتل قتيلكم. ولو شاء الله لقال: (اذبحوا بقرة عوانًا) لكنه فّصل بأنها لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك "تعريضًا بغباوتهم واحتياجهم إلى تكثير التوصيف حتى لا يَتْرُكَ لهم مجالًا لإعادة السؤال"( ). لونٌ أندرُ من الكبريت الأحمر! ولكن الأمر لم يزدد إلا وبالًا، والعقولَ لم تطفح إلا حيرة وترددًا، ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﭼ ، والسؤال عن اللون دليل حماقةِ عقولِهم، ويُبُوسةِ تفكيرهم، إذ ما علاقة اللون بقربانٍ يتقبله الله، ولم تجرِ عادةُ الناس أن يهتموا بمثل ذلك، ولا يكون لهم ذلك على بال، فمثل هذه "الأوصاف طَرْديَّة لا أثر لها في حكمة الأمر بالذبح"( ). فلما شددوا على أنفسهم باختيار اللون شدد الله عليهم بلون أندر من الكبريت الأحمر، ﭽ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﭼ، فاللون ليس بمشهور على الأبقار، ولو قال صفراء وسكت لكان من الصعوبة بمكان، فكيف وهو يقول: صفراء فاقع لونها، والأصفر الفاقع، كما تقول: الأبيض الناصع، والأخضر الناضر، والأسود الحالك، فالفاقع: شديد الصفرة، وحتى لا يَظُنّ الظان أن شدة صفرتِها عيبٌ اعتراها لمرض جلدي، أو طفح جسمي، قال لهم: ﭽ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﭼ، فلجدها نقيٌّ، ولونها بَهِيٌّ، "إذا نظرْتَ إليها يُخيَّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها"( ). جهلة ثالثة! ثم إنهم أتوا بجهْلِةٍ ثالثة، وسطوة آخِرة، فزادوا نبيهم موسى-عليه السلام- أذى وتعنتًا، فزادهم الله عقوبة وتشديدًا، ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭼ ، فتشابه البقرُ عليهم، والتبس أمرُهم بينهم، وغدوا في أمر مريج، جناه عليهم قِلةُ فِقههم، وتمادي عجزِهم. ﭽ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭼ ، وهذه صفة لا تكون في بقر، ولم يُعهَد أن تكون في إبل ولا غنم، فهي بقرة فارهة، لم تُحمَل على عمل، ولم يُشقَّ عليها في سقاية، (ﭨ ﭩ) أي: بقرةٌ غيرُ مُذلَّلة للإنسان، بل هي عنيدة صعبة، غيرُ مِطواعة للعمل، ومن آثار صعوبتها: أنها لا تثير الأرض ولا تقلِبُها، ولا تسقي الحرث ولا تكون في السواني، بل هي بقرة وحشية، لا تأنس بالإنسان ولا بعمل الإنسان. فهي بقرة تناسب ما عليه الإسرائيليون من الصعوبة في الطاعة، وعدم الليونة في اتباع الأمر، فعاقبهم الله من جنس طبعهم وطباعهم، بل وزادهم الله فوق ذلك فقال: ﭽ ﭯﭼ أي: مُسَلَّمة من العيوب، كاملة من جميع النواحي، لا عمياء ولا عرجاء ولا عجفاء ولا هزيلة لا تُنقِي، بل زادهم فوق ذلك وقال لهم: ﭽ ﭰ ﭱ ﭲ ﭼ أي: ليس فيها علامة، وليس فيها نقطةُ تخالف صفارها الفاقع، وهذا عسير جدًا جدًا، فقد فطر الله البهائم ملونةَ الفم، أو القوائم، أو الآذان، أو البطون، فالغراب أبقع، أي: فيه لونان، والفرس أبلق، أي: فيه لونان، والثور أشيه، أي: فيه لونان، لكن هذه البقرة يقول الله عنها: (ﭰ ﭱ ﭲ). فاتقوا الله أيها المؤمنون، وارجوا ثوابه، وأديموا شكر نعمه، وأكثروا من الاستغفار. الخطبة الثانية: بقرة تُشتَرى بوزنها ذهبًا! ﭽ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭼ ، فسبحان الله! الآن فقط جاء بالحق! الآن فقظ تبيَّن لهم أيَّ البقر أراد! ولا شك أن أمرَهم هذا هراء، وحالَهم الذي هم فيه حالُ جهل وسفه. ثم إنهم لما جمعوا ما استثقل من صفاتها، وما صعُب من شكلها وأوصافها، أخذوا يبحثون الأرض، ويقلبون المزارع، فما وجدوها إلا بملء جلدها ذهبًا، فاشتروها بأغلى الأثمان، وأرفع الأسعار، ثم ذبحوها فعمدوا إلى جلد البقرة فملؤوه دنانير، ثم دفعوا الدنانير إلى مالكها، فحصل لهم بسبب تشددهم من النعوت لهذه البقرة ما لم توجد إلا في بقرة واحدة، فاضطروا إلى شراء بقرة لا يُعلم على صفتها غيرُها، بقرة فتية قوية، ذات لون فاقعٍ الصفرة، ليس فيها سواد ولا بياض، ولولا قولهم: ﴿ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﴾ لما وجدوها، وأيم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخِرَ الأبد. قال ابن كثير: "لم يجدوا البقرة التي نُعتِت لهم إلا عند عجوز عندها يتامى، وهي القِيِّمة عليهم، فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرُ هذه البقرة، أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطُوها رضاها وحُكمَها. فَفَعَلوا، واشتروها"( ). ﭽ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭼ، وهذا ذم لهم، فما كادوا أن يذبحوها إلا بعد الجَهد والكَدّ ( ). انكشاف السر وظهور المخبأ! فلما أتوا بالبقرة، قالوا يا موسى: سألناك من قاتلُ قتيلِنا فأمرتنا أن نذبح بقرة! وها قد ذبحناها، فما علاقة البقرة بقتيلنا الذي نطالب بمعرفة قاتله؟! هنا يأتي سر هذا الأمر، والحكمة من تِلْكُم البقرة، فقد أخبر الله عن القتلة الذين قتلوا عمهم، فقال: ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﭼ، فبهذه البقرة سوف ينكشف سرُّ القاتل، ويظهرُ للناس المكتوم من الأمر، ﭽ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﭼ، أمرهم الله أن يأخذوا من عظام البقرة، ويضربوا بالعظام جسدَ الميتِ القتيل، فأمرهم موسى أن يأخذوا عظًما منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا، فأرجع الله إلى القتيل روحَه، فقام الميت وقال: قتلني فلان وفلان. ثم عاد ميتًا كما كان. فأُخِذ قاتلُوه، وهم الذين أتوا موسى شاكين إليه في أول القصة، فقتلهم الله على أسوأ أعمالهم. ملامح من واقع حياة! إن هذه القصة تعطي صورة من صور الجدل العقيم، وتعكس طبعًا من طباع الإنسان وهو لئيم، عندما يُعميه حبُّ الدنيا، فيقتلَ بدم بارد، ويُزهِق بنفس طامعة جشعة، كما تخبرك القصة عن شيء من أخلاق اليهود، وما هم عليه من المراوغة والمكر، والتشدد والتعنت، فمِن تشددهم "أنهم كانوا إذا أصاب جلدَ أحدِهم بولٌ قرَّضه بالمقاريض"( )، لكنَّ تشدُّدَهم عليهم، وكيدَهم في كيد الله لا ينفعهم، بل يكشف عوارهم، ويفضح خبيئتهم. عاصم بن عبدالله بن محمد آل حمد
📄 اضغط لمشاهدة الملف

خطب ذات صلة