الحب الحقيقي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحب الحقيقي!
27 / 6 / 1446هـ
الحمد لله...أما بعد:
هي أصل الدين، ومراقي المتنعمين، ودرجات الخالدين، ولا يكتمل التعبد إلا بها، ولا ينتظم قرار الفؤاد إلا بنوالها، لأجلها أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب، وتنوعت الشرائع، وعلى أساسها وُضع الثواب والعقاب، وعلى قاعدتها خلقت الجنة والنار، وبنهايتها انقسم الخلق إلى شقي وسعيد: إنها محبة الله حقًّا، والرضا به ربًّا، والأنس بلقائه شوقًا.
محبة الله فطرة سماوية.
إن محبة الله فطرةٌ سماوية، بها تحيا الروح، وبظلها تطمئن النفوس، لا قوت للقلوب إلا بالوقوع في هذه المحبة، ولا نور للعقول إلا بفهم هذه الخصلة، فمن أحب الله عمَّر باطنه بالبهجة، ووجد لذلك حلاوة لا يعدلها حلاوة، ولذةً لا يقاربها نعيم، ومهما حصل للإنسان من أسباب اللذة والمتعة فإنها لا تجاري محبة الله، ولا تعادل الفرح به.
حبُّ غير الله فقرٌ وذلة.
ومن أحبَّ غير الله وقدمه على مراضيه جعل قلبه خرابًا، وعامرَ أنسه سرابًا، ومكَّن من روحه الحزنَ والغمَّ والحسرة، بل كلُّ من غلَّب محبة أيِّ مخلوق على محبة الله وجد لعاقبة ذلك فقرًا، ولحماقة هذا قلقًا وذلةً وقهرًا، فإن الحُر لا يُسْلِم هوى فؤاده إلا لخالقه، ومتى ما سلّم قلبَه لغيره انتكس وتكبل بالأصفاد وارتكس.
أقرب طريق لمحبة الله: التعرف على الله.
وإن أعظم طريق لمحبة الله أن تتعرف على الله، فمن عرف أسمائه الجليلة، وصفاتِه الكريمة عرف معبوده كما يجب عليه أن يعرفه، وكلما كان إلى الله أعرف كان به أسعد، ولطاعته أحب، ولجنابه أرغب، فقط لو تفكر الإنسان في اسمٍ من أسماء، وصفة من صفاته، لكان ذلك كفيلًا بتعلق القلب بربِّه، تأمل ما قاله : "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ"( )، لو تفكر مبتغ الجمال بأن كلَّ جمال في الوجود إنما هو من جمال الله، وأن كلَّ حُسْن في الخلود إنما هو من إبداع الإله، لأحب الله لجماله الذي لا شيء أجملُ منه، ولأحب الله لنوره، الذي بنوره أضاءت السموات والأرض ومن فيهن.
من علامات المحبة الصادقة لله.
إن محبه المولى تجانب العبد عن المعاصي طبعًا، حتى يكرهها في رضى الله طمعًا، لأن محبة الله في قلبه ملأت كلَّ ذرة منه، وأغرقت روحه في البحث عن أسباب رضاه، حتى أنساه ذلك كلَّ تعب في تحصيل القرب منه-سبحانه-، ولم ينشغل بملطخات الذنوب، التي تُكدِّر عليه النقاء في زجاجة القلب، وتُعكِّر صفاء الود الذي وجده بأنس الرب.
تكريس الأفلام والمسلسلات للمحبة الضارة.
إن المحبة النافعة: هي المحبة التي تكون سببًا لنعيم المرء، وقرار باله، وصحة فؤاده، وهي محبة القرب من الله، والأنسِ بعبادته، والفرحِ بذكره.
والمحبةَ الضارة: هي المحبة التي تجلب الشقاء، وتكرس العناء، وتزعج القلب، وتجعله دائم التوتر، كالحب الذي أخذه الناس عن ثقافة الأفلام، والغرام المشوه في نظام المسلسلات، ولا شك أن يكون في مثل هذا الحب البائس الحسرةُ والأسفُ؛ لأنه حبٌّ أبغضه الله، وما أبغضه الله فليس بعده هناء ولا راحة.
سئل بعض العلماء: أين تجد في القرآن: أن الحبيب لا يعذِّب حبيبه؟ فقال: في قوله تعالى: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭼ المائدة: ١٨ ( )، إذا لو كانوا أحباء الله حقيقة لما عذبهم بانشغال قلوبهم بمحبة غيره، ومن جعل حبه في الضار نقصت عبوديتُه بحسب ما لديه من الخَلط والتشويش.
من أقبل على الله أقبلت إليه قلوب عباده.
وإن من جميل السنن، وجزيل العطايا والمنن، أن من أحبه الله أقبل بقلوب عباده عليه، فكل من أقبل على الله، تواطأ الناس على حُبِّه، ورُزق مودتهم ورحمتهم، كما أن من تعرض لمساخط الله، سخطته قلوب عباده، وتنافرت الناس من شخصه؛ وهذا أكبر شاهد على أن القلوب إنما يُصرِّفها الله بيده، وليست هي بأيادي الناس.
النظر في آلاء المُنعم سبب لحبه.
وإن من أعظم الأسباب التي يصرف العبدُ بها حبَّه إلى الله صرفًا حقيقيًا أن يلهج بتذكر نِعمِه، ويستيقن بعجز شكره، ويعلم أن آلاءه لا تُعدُّ ولا تُحصى؛ لأن القلوب مفطورةٌ على حب من أحسن إليها ولو مرَّة، فكيف بمن يرعاك في كل نَفَسٍ ألف مرة، ولأن النفوس مجبولةٌ على كره من يجحد المعروف، وينكر العطاء، فكيف بالغافل الذي يقرأه قوله تعالى: ﭽ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭼ النحل: ٥٣ ، ثم هو مشغول بقلبه بحبِّ غير الله من البشر، وتقديم مراضي المخلوق على مراضي الخالق.
أقول ما تسمعون....
الخطبة الثانية:
أوثق عرى الإيمان.
وإن من أعظم علامات محبتك لله، أن تحب عباده في الله ولله، ولا تكن محبتك لهم لشهوات دنيوية، ولعاعةٍ دونية، قال : "إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ"( )، لأن من صافى أخاه في الله وقعت عليه محبة الله صدقًا، قال : "حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَحَقَتْ مَحَبَّتِي للمتزاورينَ في، وَحَقَّتْ مَحَبَّتي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَصَافِينَ فِيَّ الْمُتَوَاصِلِينَ"( )، وكل محبة جمعتها الدنيا فإنها تزول يوم القيامة، ويتبرأ كلٌّ من خليله، إلا المحبة في الله، {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} قال ابن عباس: "من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك؛ وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا".
اللهم إنا نسألك حبَّك، وحبَّ من يحبك، وحبَّ عمل يقربنا إلى حبك، اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله قوة لنا فيما تحب، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أهلينا، ومالنا، ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم حببنا إليك، وإلى ملائكتك، وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين.
عاصم بن عبدالله بن محمد آل حمد